خالطوا الناس مخالطة إن متم بكوا عليكم وإن عشتم حنّوا إليكم. ( نهج البلاغة ٤: ٣)        الرزق رزقان: رزق تطلبه ورزق يطلبك، فإن أنت لم تأتِه أتاك. ( نهج البلاغة ٣: ٥٥)        بئس الطعام الحرام. ( نهج البلاغة ٣: ٥٢)       ليس كل طالب بمرزوق ولا كل مجمل بمحروم. ( نهج البلاغة ٣: ٥١)      الوفاء لأهل الغدر غدر عند الله، والغدر بأهل الغدر وفاء عند الله. ( نهج البلاغة ٤: ٥٧)      
البحوث > الفقهية > عدّة من لا رحم لها الصفحة

عدّة من لا رحم لهم
الشيخ محمد المؤمن
إنّ التقدّم العلمي الحديث اليوم توصّل إلى إمكان قلع رحم المرأة عند ابتلائها بمرض يرجى زواله بذلك أو لدواع شخصيّة لها، وأن تعيش بعده عيشة ترضاها، فيقع الكلام في أنّ المرأة إذا قلعت وأخرجت رحمها فهل عليها - إذا كانت في سنّ من تحيض - الاعتداد بالأشهر إذا طلّقها زوجها أو هي بحكم اليائسة لا عدّة عليها وتحلّ لها الأزواج من حيث الطلاق؟

 المستفاد من كلمات الفقهاء
 
إنّ المسألة وإن كانت من المستجدّات كما أشرنا إلاّ أنه لا بأس مع ذلك بالرجوع إلى كلمات أصحابنا الأخيار لعلّه يستنبط منها ملاك الاعتداد عندهم ويستفاد منها أو يؤيّد ما لعلّنا نستفيده من أدلّة الباب، فنقول: إنّ المأثور عن الأصحاب في عدّة الطلاق لمن لا تحيض من النساء لصغر سنّها أو كبره قولان: فالسّيد المرتضى وأبو المكارم ابن زهرة قدس الله سرهما قالا بأنّ علهيما أيضاً الاعتداد إذا طلّقهما زوجهما، والمشهور بينهم أنه لا عدّة عليهما.
فقال السيدّ المرتضى في الانتصار: مسألة: «وممّا ظنّ انفراد الإماميّة به القول بأنّ الآيسة من النساء من المحيض إذا كانت في سنّ من لا تحيض لا عدّة عليها متى طلّقت، وكذلك من لم تبلغ المحيض إذا لم يكن مثلها من تحيض لا عدّة عليها، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك ويوجبون العدّة على الآيسة من المحيض وعلى التي لم تبلغه على كلّ حال، وعدّة هؤلاء عندهم الأشهر، وهذا المذهب ليس بمذهب لجميع الإمامية، وإن كان فيهم من يذهب إليه ويعوّل على أخبار آحاد في ذلك ولا حجّة فيها وليس بمذهب لجميع الإمامية فيلحق بما أجمعوا عليه.
والذي أذهب أنا إليه أنّ على الآيسة من المحيض والتي لم تبلغه العدّة على كل حال، من غير مراعاة الشرط الذي حكيناه عن أصحابنا. والذي يدلّ على صحّة هذا المذهب قوله تعالى: (وَالاَّئِي يَئِسْنَ من المَحِيِض مِن نِسَائَكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أشْهُرً وَالّلائي لَمْ يَحضْنَ)(١) وهذا نصّ صريح في أن الآيسات من المحيض واللائي لم يبلغن عدّتهن الأشهر على كلّ حال، لأنّ قوله تعالى: (وَالائِي لَمْ يَحِضْنَ) معناه: واللائي لم يحضن كذلك»(٢). ثمّ تصدّى لتبيين دلالة الآية وإبرام ما قيل على دلالتها من النقوض. فهو قدس سره لا يرى أثراً لليأس من المحيض بل الآيسة وغيرها لديه سواء عليهما الاعتداد بثلاثة أشهر.
وقال السيّد أبو المكارم ابن زهرة - في فصل في العدّة من كتابه الغنية عند تعرّضه لعدّة المطلّقة -: «... وإن كانت لا تحيض لصغر أو كبر وليس في سنّها من تحيض فقد اختلف أصحابنا في وجوب العدّة عليها، فمنهم من قال: لا تجب، ومنهم من قال: يجب أن تعتدّ بالشهور، وهو اختيار المرتضى رضي الله عنه، وهي ثلاثة أشهر، وبه قال جميع المخالفين، وطريقة الاحتياط تقتضي ذلك، وأيضاً قوله تعالى: (وَالائِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مَن نِساَئِكُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَالائِي لَمْ يَحِضْنَ)(٣) وهذا نصّ»(٤) ثم بيّن وجه دلالة الآية بما يقرب ممّا ذكره السيّد في الانتصار.
فكلام هذين العلمين لا دليل فيه على نفي الاعتداد عمّن قلعت رحمهما، بل أنّ حكمهما بوجوب العدّة على الصغيرة واليائسة يقتضي أنّه لا يستثنى من المطلّقات أحد، ويجب عدّة الطلاق على جميع النساء، وتعمّ موضوع الكلام.
فإن كان هنا دلالة أو إشعار فإنمّا هو في كلام غيرهما ممّن ينفي العدّة عن اليائسة والصغيرة، فيبحث أنّ هذا النفي هل يختصّ بخصوصهما أم يعمّ كلّ من لا تحيض مثلها؟ فنقول:
قال الشيخ المفيد قدس سره في كتابه القيّم المقنعة - باب عدد النساء -: «وإذا طلّق الرجل زوجته الحرّة بعد الدخول بها وجب عليها أن تعتدّ منه بثلاثة أطهار إن كانت ممّن تحيض، وإن لم تكن تحيض لعارض ومثلها في السنّ من تحيض اعتدّت منه بثلاثة أشهر، وإن كانت قد استوفت خمسين سنة وارتفع عنها الحيض وأيست منه لم يكن عليها عدّة من طلاق»(٥).
والعبارة كما ترى قد جعلت الملاك الكون في سنّ من تحيض وارتفاع الحيض باستيفائه، ومقتضاها وجوب الاعتداد على موضوع بحثنا، إلاّ أن لقائل أن يقول أنّها ناظرة ومبنية على ما تعارف عليه حينذاك، وإن قوله: «ارتفع عنها الحيض وأيست منه» دالّ على سرّ عدم وجوب الاعتداد، وهو موجود في ما نحن فيه، ومقتضاه أن لا يكون عليها عدّة.
وقال الصدوق - في باب الطلاق من المقنع-: «واعلم أن خمساً يطلّقن على كلّ حال: الحامل المبين حملها، والغائب عنها زوجها، والتي لم يدخل بها، والتي قد يئست من الحيض أو لم تحض، وهو على وجهين: إن كان مثلها لا تحيض فلا عدّة عليها، وإن كان مثلها تحيض فعليها العدّة ثلاثه أشهر»(٦).
وليس في العبارة تصريح بأنّ الاعتبار بالسنّ فلو فسّر قوله: «إن كان مثلها لا تحيض الخ» بما يعمّ مثل ما إذا كان عدم الحيض مستنداً إلى إخراج الرحم بالعملية المذكورة لكانت دالة على أن مثلها لا عدّة عليها، كمن خرجت عن سنّ الحيض. إلاّ أن الظاهر انصراف العبارة إلى المعهود في مثل ذلك الزمان، لكنّه مع ذلك ففي العبارة إشعار بسرّ حكم الاعتداد كما في سابقتها.
وقال ابن إدريس - في باب العدد من السرائر -: «وإن كانت لا تحيض لصغر لم تبلغ تسع سنين أو لكبر بلغ خمسين سنة مع تغيّر عادتها وهما اللتان ليس في سنّهما من تحيض فقد اختلف أصحابنا في وجوب العدّة عليهما، فمنهم من قال: لا تجب، ومنهم من قال: تجب أن تعتدّ بالشهور، وهي ثلاثة أشهر، وهو اختيار السيدّ المرتضى وبه قال جميع المخالفين...» إلى أن قال - بعد ذكر دليله كما في الانتصار -، «والقول الآخر أكثر وأظهر بين أصحابنا، وعليه يعمل العامل منهم، وبه يفتي المفتي، والروايات بذلك متظافرة متواترة، وهو مذهب شيخنا المفيد وشيخنا أبي جعفر في سائر كتبه. فأمّا الآية فلا تعلّق فيها بحال لا تصريحاً ولا تلويحاً، لأنّه تعالى شرط في إيجاب العدّة ثلاثة أشهر إن ارتابت، والريبة لا تكون إلا فيمن تحيض مثلها، فأمّا من لا تحيض مثلها فلا ريبة علهيا، فلا يتناولها الشرط المؤثَر»(٧).
فتراه قدس سره قد استدلّ في مقام ردّ قول السيّد بوجوب العدّة على الآيسة والصغيرة بأنّ شرط إيجاب العدّة هو ارتياب الحمل أو الحيض، والريبة لا تكون فيهما، فلا عدّة عليهما، ففيه دلالة واضحة على عدم ثبوت العدّة على من لا تحيض لانقلاع رحمها وإخراجه.
اللّهمّ إلاّ أن يقال: إنّ مصبّ كلامه إنّما هو نفي دلالة الآية على ما رامه السيّد المرتضى بقوله الذي نقلناه: «وهذا نصّ صريح في أنّ الآيسة من المحيض واللائي لم تبلغ عدّتهن الأشهر على كلّ حال» فهو قدس سره إنّما ينفي دلالة الآية من دون تصريح بأنّ الملاك في الاعتداد هو الارتياب، لكنّه لا ينبغي الريب في إشعار كلامه بذلك ما لا يخفى.
وقال الشيخ في باب العدد من النهاية: «وإذا دخل بها ثمّ أراد طلاقها، فإن كانت لم تبلغ المحيض ومثلها لا تحيض - وحدّ ذلك ما دون التسع سنين - لم يكن عليها منه عدّة... وإن كانت لا تحيض ومثلها تحيض كان عليها أن تعتدّ بثلاثة أشهر، فإذا مضت فقد بانت منه وملكت نفسها»(٨).
إلى أن قال بعد ذكر أحكام لمستقيمة الحيض وغيرها: «وإذا طلّقها وهي آيسة من المحيض، ومثلها تحيض كان عدّتها ثلاثة أشهر، وإن كانت آيسة من المحيض ومثلها لا تحيض، فليس عليها منه عدّة، وبانت في الحال وحلّت للأزواج»(٩).
فهو قدس سره قد تعرّض لحكم من لا تحيض وهي في سنّ من تحيض مرّتين، وحكم عليها بالاعتداد ثلاثة أشهر، وإطلاقه يشمل ما نحن فيه، اللّهمّ إلاّ أن يدّعى انصرافه إلى المتعارف في ذلك الزمان كما احتملناه ذيل عبارة الشيخ المفيد قدس سره.
وربّما أمكن أن يقال: إنّ قوله: «وإن كان آيسة من المحيض ومثلها لا تحيض فليس عليها منه عدّة» يعمّ ما نحن فيه فإنّ من قلع رحمها آيسة من المحيض ومثلها لا تحيض فلا بدّ وأن لا يكون عليها عدّة، فليس ما نحن فيه داخلة في عنوان «من لا تحيض ومثلها تحيض» بل في عنوان «الآيسة من المحيض ومثلها لا تحيض» فلا بدّ وأن لا يكون عليها عدّة. لكنّه أيضاً منصرف إلى متعارف ذاك الزمان، إلاّ أنّه مع ذلك لا يخلو عن إشعار بالمطلب كما مرّ.
وقال - في كتاب العدد من المبسوط -:« والمدخول بها إن كانت لم تبلغ ومثلها لم تبلغ لا عدّة عليها عند أكثر أصحابنا، وعند بعضهم يجب، وهو مذهب جميع المخالفين»(١٠)... إلى أن قال: «الآيسة من المحيض ومثلها لا تحيض لا عدّة عليها، مثل الصغيرة التي لا تحيض مثلها، ومن خالف هناك خالف ها هنا. وقالوا: عليها العدّة بالشهور على كلّ حال»(١١).
والكلام فيه كما مرّ في عبارة النهاية: من إمكان دعوى شمول الآيسة لموضوع البحث، وإمكان الانصراف عنها، وفي عدم خلوّها من الإشعار بحكم ما نحن فيه.
وقال قدس سره - في كتاب العدّة من الخلاف -:«مسألة١: الأظهر من روايات أصحابنا أنّ التي لم تحض ومثلها لا تحيض والآيسة من المحيض ومثلها لا تحيض لا عدّة عليهما من طلاق، وإن كانت مدخولاً بها.
وخالف جميع الفقهاء في ذلك، وقالوا: يجب عليهما العدّة بالشهور. وبه قال قوم من أصحابنا.
دليلنا روايات أصحابنا وأخبارهم وقد ذكرناها، وأيضاً قوله تعالى: (وَاَّلائِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيض مِن نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ)(١٢) فشرط في إيجاب العدّة ثلاثة أشهر إن ارتابت، والريبة لا تكون إلاّ في مَن تحيض مثلها، وأمّا من لا تحيض مثلها فلا ريبة عليها»(١٣).
فعبارته قدس سره وإن كانت من حيث الشمول لموضوع البحث والانصراف عنه مثل عبارة نهايته إلاّ أنّ بيانه قدس سره في مقام الاستدلال «لأنّ حكم الاعتداد المذكور في الآية لا يعمّ اليائسة» يقتضي عدم عمومه لموضوع بحثنا أيضاً، فإنّ من قلعت رحمها أيضاً لا ريبة عليها.
وقال القاضي ابن البرّاج (المتوفّى ٤٨١) - في مهذّبه في باب طلاق الآيسة من المحيض وليس في سنّها من تحيض -: «فإذا طلّقها بانت منه في الحال، وكان بعد ذلك خاطباً من الخطّاب»(١٤) ونحوها أفاد في طلاق الصغيرة(١٥) ولم يزد عليه ما يستدلّ به لما نحن فيه.
وقال سلاّر - في كتاب الفراق من المراسم عند ذكر ما يلزم المرأة -: «فأمّا غير المتوفّى عنها زوجها فعلى ضربين: أحدهما يجب عليها عدّة، والآخر لا يجب عليها عدّة، فمن لا يجب عليها عدّة من لم تبلغ المحيض وليست في سنّ من تحيض، وغير المدخول بها، واليائسة من الحيض وليست في سنّ من تحيض، وقد حدّ في القرشية والنبطية ستّون سنة وفي غيرها خمسون سنة»(١٦).
وهو قدس سره وإن وافق المشهور في عدم العدّة على مثل الصغيرة واليائسة إلاّ أنّ عبارته لا مجال لتوهّم عموم فيها لمثل موضوع بحثنا. اللّهمّ إلاّ بمثل إشعار ضعيف كما لا يخفى.
وقال ابن حمزة - في فصل في بيان العدّة من كتاب الطلاق من الوسيلة عند ذكر عدّة الطلاق -: «والتي لم تبلغ المحيض ولا مثلها والآيسة من المحيض ومثلها لا تحيض لا عدّة عليهما، وقال المرتضى: عليهما العدّة، مثل عدّة من لم تبلغ المحيض ومثلها تحيض. والآيسة من المحيض ومثلها تحيض، عدّتها ثلاثة أشهر»(١٧). والكلام في احتمال عموم العبارة لما نحن فيه وفي إشعارها مثل ما تقدّم في سابقه.
وقال الحلبي في الكافي - في فصل في العدّة -: «فأمّا الطلاق فإن وقع من حرّ أو عبد بحرّة أو أمة قبل الدخول أو بعده وقبل أن تبلغ تسع سنين أو بعد ما يئست من الحيض ومثلها لا تحيض فلا عدّة عليها، وإن كان بحرّة بعد الدخول وقبل الحيض أو بعد ارتفاعه لعلّة ومثلها من تحيض فعدّتها ثلاثة أشهر»(١٨).
فقوله: «أو بعد ما يئست من المحيض ومثلها لا تحيض...» ربّما يدّعى عمومه لموضوع كلامنا، لكن دعوى الانصراف إلى خصوص من طعنت في السنّ قائمة، وعلى أيّ حال فالإشعار ثابت كما تقدّم.
وقال المحقّق في الشرائع - ذيل الفصل الثالث من بحث العدة -: «وفي اليائسة والتي لم تبلغ روايتان، إحداهما أنّهما تعتدّان بثلاثة أشهر، والاُخرى لا عدّة عليهما، وهي الأشهر، وحدّ اليأس أن تبلغ خمسين سنة»(١٩).
وقال في المختصر النافع: «ولا عدّة على الصغيرة ولا اليائسة على الأشهر وفي حدّ اليأس روايتان أشهرهما خمسون سنة»(٢٠).
وكما ترى ليس في عبارتيه دلالة على حكم ما نحن فيه إلاّ الإشعار الذي مرّ بيانه.
وفي كشف الرموز - شرح المختصر النافع - لم يزد على المتن شيئاً إلاّ قوله: «وعليهما - يعني خبري عدم ثبوت العدّة على الصغيرة واليائسة - عمل الشيخين وابن بابويه وابن أبي عقيل وسلاّر»(٢١).
وقال العلاّمة - في الفصل الأوّل من مبحث العدد من القواعد -: «ولو دخل بالصغيرة، وهي مَنْ نقص سنّها عن تسع أو اليائسة وهي من بلغت خمسين، أو ستّين إن كانت قرشية أو نبطية فلا اعتبار به، ولا يجب لأجله عدّة طلاق ولا فسخ على رأي، أمّا الموت فيثبت فيه العدّة وإن لم يدخل وإن كانت صغيرة أو يائسة، دخل أو لا»(٢٢).
وفي إيضاح الفوائد لولده فخر المحقّقين (المتوفّى ٧٧١) - تعليقاً على قوله: «على رأي» ما نصّه:
«أقول: الخلاف في الصبية التي لم تبلغ واليائسة إذا طلّقت بعد الدخول أو فسخ نكاحها بعد الدخول هل عليهما عدّة الطلاق أم لا؟ قال الشيخان وابنا بابويه وأبو الصلاح وسلاّر وابن البرّاج وابن إدريس: لا عدّة عليهما، وهو اختيار المصنّف، وهو الحقّ عندي، وقال السيّد المرتضى وابن زهرة عليهما العدّة.
لنا ما رواه عبد الرحمن بن الحجاج في الموثّق - فساق الحديث - وفي الحسن عن زرارة - فساقه ثمّ قال -: ولأنّ كّلاً من هاتين المطلّقتين انتفى سبب الاعتداد فيهما، وكلّما انتفى سبب الاعتداد انتفى الاعتداد، والثانية ظاهرة، وأمّا الاُلى فلأنّ سبب الاعتداد استعلام فراغ الرحم من الحمل، لما رواه محمّد بن مسلم عن الباقر عليه السلام قال: «التي لا يحبل مثلها لا عدّة عليها»(٢٣) وفي هذا الحديث ايماء إلى ما ذكرنا، والحمل هنا ممتنع بالنظر إلى العادة»(٢٤).
وموضوع كلام المتن والشرح وإن لم يعمّ ما نحن فيه، وليس فيه أزيد من الإشعار المذكور بالعموم، إلاّ أنّ الدليل الثاني الذي استند إليه الشارح يقتضي انتفاء العدّة في محلّ كلامنا أيضاً، فإنّ المفروض انقلاع رحم المرأة بالمرة وامتناع الحمل بالقطع واليقين، فالرحم فارغة عن الحمل، وسبب الاعتداد منتف، ولازمه انتفاء الاعتداد كما أفاد.
وقال ابن فهد (المتوفّى ٨٤١) في المهذّب البارع - عند قول المحقّق:
«ولا عدّة على الصغيرة ولا اليائسة على الأشهر» -: «أقول: هذا هو مذهب الشيخين وتلميذه وابن حمزة والتقي وابن إدريس، وذهب السيّد إلى وجوب العدّة عليهما بثلاثة أشهر، واختاره ابن زهرة. احتجّ الأوّلون بأنّ المقتضي للاعتداد زال، فتزول العدّة، لأنّ العدّة إنّما شرعت لاستعلام فراغ الرحم من الحمل غالباً، وهذه الحكمة منتفية هنا قطعاً، فلا وجه لوجوب العدّة»(٢٥). وهي في الدلالة وكيفيّتها مثل عبارة الإيضاح كما هو واضح.
والعلاّمة في الإرشاد لم يزد على قوله: «وإن كانت في سنّ من تحيض ولا حيض لها فعدّتها ثلاثة أشهر، ولا عدّة على الآيسة والصغيرة»(٢٦).
وقال الشهيد الثاني في المسالك: «اختلف الأصحاب في الصبية التي لم تبلغ التسع واليائسة إذا طلّقت بعد الدخول.. هل عليهما عدّة أم لا؟ فذهب الأكثر، ومنهم الشيخان والمصنّف والمتأخّرون، إلى عدم العدّة. وقال السيّد المرتضى وابن زهرة: عليهما العدّة، والروايات مختلفة أيضاً، وأشهرها بينهم ما دلّ على انتفائها، فمنها - ثمّ سرد أربع روايات ثمّ قال: - وحسنة محمّد بن مسلم أيضاً عن أبي جعفر عليه السلام قال: «التي لا تحل مثلها لا عدّة عليها». ويؤيّده من جهة الاعتبار انتفاء الحكمة الباعثة على الاعتداد فيهما، وهو استعلام فراغ الرحم من الحمل، كما تنبّه عليه رواية محمّد بن مسلم السابقة، وانتفاؤها عن غير المدخول بها، وهما في معناها»(٢٧).
فهو كما ترى قد جعل انتفاء الحكمة المذكورة مؤيّداً للمدّعى لا مستنداً له، وأيّده أيضاً بأنّهما بمنزلة غير المدخولة التي لا عدّة عليها.
وقال سيّد الرياض - عند شرح قول المحقّق: «ولا عدّة على الصغيرة ولا اليائسة على الأشهر» والاستدلال له بالأخبار -: «وهي مع استفاضتها واعتبار سند أكثرها وانجبار باقيها بالشهرة العظيمة التي كادت تكون إجماعاً بل إجماع في الحقيقة معتضدة بأصالة البراءة والمخالفة للتقيّة وفقد الحكمة الموجبة للعدّة(٢٨).
فقوله قدس سره: «وفقد الحكمة الموجبة للعدّة» نظير لما ذكرناه عن المسالك آنفاً كما لا يخفى.

 المستحصل من كلماتهم
فالمتحصّل من هذه الكلمات: أنّ السيّدين لم يفرّقا في ثبوت عدّة الطلاق بين أقسام النساء وأوجباها حتى على اليائسة والصغيرة، وأمّا غيرهما من الأصحاب فقد نفوها عنهما، وعباراتهم في التعبير عن اليائسة مختلفة، فربّما عبّروا عنها بمن يئست من المحيض وليست في سنّها من تحيض، وهم الأكثر، كما في المقنعة والانتصار والسرائر والمهذب والغنية والمراسم بل والشرائع والنافع والقواعد والإرشاد، وربّما عبّروا عنها بمن يئست عن المحيض ومثلها لا تحيض، كما في عبارة الصدوق في المقنع والشيخ في كتبه الثلاثة وابن حمزة في الوسيلة والحلبي في الكافي.
وقد عرفت إمكان دعوى عموم التعبير الثاني لما نحن فيه، فإنّ من قلع رحمها يائسة عن المحيض ومثلها لا تحيض، ولازمه عموم حكمهم بانتفاء العدّة لها، إلاّ الإنصاف انصرافها إلى متعارف ذلك الزمان من كون منشأ اليأس الكبر والطعن في السنّ، فيتّحد التعبيران، ولا يعمّ شيء منهما لما نحن فيه، نعم في كليهما إشعار بأنّ سرّ انتفاء العدّة عنهما إنّما هو عدم إمكان الحيض والحمل، فتنتفي العلّة الباعثة على الاعتداد فيهما، وهي استعلام فراغ الرحم من الحمل، وهو بعينه موجود في ما نحن فيه، ولازمه أن ينتفي حكم وجوب الاعتداد عن موضوع بحثنا أيضاً، هذا.
ومسألتنا حيث أنّها مستجدّة لا يعمّها كلمات الأصحاب لا نفياً ولا إثباتاً، وإن كان في كلماتهم ما يشعر بانتفاء الاعتداد فيها.
نعم، قد عرفت اشتمال كلمات بعضهم على الاستدلال لنفي العدّة عن اليائسة والصغيرة بدليل يقتضي نفيها عن موضوع بحثنا، كما مرّ التنبيه عليه ذيل ما نقلناه عن الخلاف وإيضاح الفوائد.

متى ينفتح البحث
وحينئذٍ فالعمدة هو الرجوع إلى أدلّة الباب ليستبين أنّها عامّة لما نحن فيه أيضاً أم أنّها خاصّة بخصوص الكبيرة العجوزة.
وقبل الورود في تبيّن حدود مفادها يجب التنبّه لنكتة: وهي أنّ المقصود بالكلام هنا أنّه على القول بأنّ الصغيرة واليائسة لا عدّة عليهما في الطلاق فهل يعمّ حكمهما لمنقلعة الرحم أو لا؟ وأمّا على قول السيدين من عموم الاعتداد لهما أيضاً فلا مجال للبحث عن استثناء ما نحن فيه عنه، فالبحث عمّا نحن فيه فرع لقول المشهور، وهو واضح.
ومنه يتبيّن أنّ البحث في مسألتنا إنّما هو بعد الفراغ عن تحكيم أدلّة نفي العدّة عن اليائسة والصغيرة ورفع اليد عن معارضاتها، لعدم اعتناء المشهور بها أو لموافقتها لمذهب العامّة أو لغير ذلك.
وربّما أمكن أن يقال: إنّا لا نسلّم تفرّع البحث عن انتفاء العدّة في محلّ كلامنا على الفراغ عن انتفائها عن اليائسة والصغيرة، وذلك أنّ أدلّة الانتفاء عامّة تدلّ على حكم المقلوعة الرحم بما أنّها فرد من الأفراد الداخلة في موضوع تلك الأدلّة بلا ابتناء ولا تفرّع على دخول اليائسة والصغيرة فيها.
إلاّ أنّ التحقيق خلافه، وذلك أنّ عناوين الأدلّة النافية - كما سيأتي - كالنصّ فيهما بحيث لا يمكن إخراجهما عنها واختصاصها بمثل من انقلعت رحمها، بل إمّا يرفع اليد عنها كما هو قول السيّدين، وإمّا يؤخذ بها كما عليه المشهور، وعلى الثاني ينفتح مجال البحث عن عمومها لموضوع كلامنا.

مقتضى القاعدة في المطلّقة
إذا عرفت هذا فنقول: قد يقال: إنّ مقتضى القاعدة ثبوت العدّة على كلّ مطلّقة. وما يمكن أن يستدلّ به على هذه القاعدة عدّة من الآيات والأخبار:
١ - فمن الآيات قوله تعالى - في أوّل سورة الطلاق -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواٌ العِدَّةَ)(٢٩) فإنّ ظاهرها أنّ الطلاق إنّما يتحقّق ببلوغ العدّة وعموم (النساء) شامل لجميع أصنافها التي منها من انقلع رحمها، فيدلّ على ثبوت العدّة في طلاقها أيضاً.
فإن قلت: إنّ إضافة العدّة إلى ضمير النساء في قوله تعالى: (لعدّتهنّ) تدلّ على مفروضية تشريع العدّة للنساء، فلا محالة تحكي عن تشريع العدّة لهنّ قبل نزول هذه الآية، ويكون إشارة إلى آية البقرة، وحيث إنّها مختصّة بمن تحيض من النساء، فآية الطلاق أيضاً تختصّ بمن تحيض، ولا عموم فيها.
بل قد يقال: إنّ الآية حيث إنّها ليست في مقام تشريع أصل العدّة، بل في مقام ذكر أنّ الطلاق والافتراق لا بدّ وأن يكون عند بلوغ العدّة وانقضائها، فلا محالة تختصّ بمن شرّعت لها العدّة من النساء، ولا عموم فيها يشمل جميع النساء لكي تدلّ على قاعدة عامّة.
قلت: لا ينبغي الريب - كما اُفيد - في أنّ الآية إنّما تكون بصدد أنّ الفراق إنّما يكون ببلوغ العدّة، إلاّ أنّه لا ريب أيضاً في أنّ ما جعلته موضوع هذا الحكم عنوان (النساء) الذي ليس فيه أيّ قيد، وهو اسم جمع يعمّ جميع أفراد النساء، ولا مجال لتقييد موضوع القضية بما يوجبه ثبوت محمولها له، كما في سائر الموارد.
ولا يقاس بما إذا علم أنّ المحمول لا يمكن ثبوته لجميع مصاديق الموضوع، فإنّ نفس هذا العلم قرينة على هذا التقييد الذي هو خلاف الظاهر، وأمّا إذا لم يكن قرينة فاللازم أن يؤخذ بظاهر الكلام الذي هو العموم.
وبالجملة، فحيث إنّ النساء عام يشمل جميع الأفراد فمدلولها الالتزامي أنّ كلّ واحدة منهنّ قد شرعت لها عدّة تعتدّها، وهو كاف في إثبات المطلوب.
وما اُفيد من أنّه إشارة إلى خصوص ما في آية البقرة لكي تختصّ بمن تحيض من النساء.
فهو ممّا لا شاهد له، فإنّ مدلول اللفظ ولازمه ليس سوى أنّ النساء قد شرّعت لهنّ عدّة، وأمّا إنّ هذا التشريع هو خصوص التشريع المدلول عليه بآيات البقرة ليس إلاّ، فلا شاهد له، بل هو مدلول التزامي تابع في العموم والخصوص لمدلوله المطابقي، وقد عرفت أنّ موضوع الحكم هو عنوان (النساء) الشامل لجميع أفراد النساء وأصنافها.
نعم، يمكن أن يقال: إنّ العموم الذي قيل إنّما يستفاد من الآية لو لم تكن مذيّلة بذيل يحتمل كونه قرينةً للتقييد، وإلاّ فالذيل يمنع عن انعقاد العموم، ويوجب فيه الإجمال، وها هنا الأمر كذلك.
وذلك إنّ قوله تعالى في الآية الرابعة من السورة نفسها: (وَالَّلائِيِ يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِن نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ)(٣٠) قد قيّد الاعتداد بالأشهر بالارتياب الظاهر في ارتياب الحمل واحتماله، فيدلّ بالمفهوم على أنّه مع عدم احتمال الحمل في اليائسة المذكورة فلا عدّة عليها، فربّما يفهم منه أنّه كلّما لم يكن احتمال الحمل لم يكن مجال للعدّة، فهي قرينة متّصلة بذيل الكلام، يقيّد بها المطلق الواقع صدره، وتمنع عن انعقاد الإطلاق أو العموم له.
والإنصاف: أنّ مجرّد احتمال أن يكون نزول الآيات الأربع دفعة واحدة واحتمال أن يراد بالارتياب احتمال الحمل يوجب طروّ الإجمال في ظهور الكلام، فلا يمكن الاستدلال به على إثبات قاعدة عامّة، وحيث إنّ كلاًّ من الاحتمالين قائم فالاستناد إليها لإثبات القاعدة مشكل جدّاً بل غير صحيح، واللّه العالم.
٢ - ومنها قوله تعالى - في سورة البقرة -: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهُنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ)(٣١) بلحاظ أنّ عموم (المُطَلَّقَاتُ) أيضاً شامل لجميع أصناف النساء كعموم (النساء) حرفاً بحرف.
والتحقيق: أنّ دلالتها غير تامّة، فإنّ حكم التربّص ثلاثة قروء يخصّص عمومها بخصوص من تحيض منهنّ، فإنّ الأقراء الثلاثة - سواء كان القرء بمعنى الطهر كما هو الصحيح ويشهد له الأخبار بعناية أنّه المناسب لأصله في اللغة أعني الجمع، فإنّ زمن الطهر زمن اجتماع الدم في الرحم أم كان بمعنى الحيض كما عدّ أيضاً من معانيه - إنّما يتصوّر تحقّقها فيمن تحيض وتطهر، فيكون لها ثلاثة أطهار أو ثلاث حيض، وأمّا من لا تحيض بعد الطلاق أصلاً - إمّا لعدم بلوغها سنّ الحيض وإمّا لتجاوزها عنه وإمّا لانقلاع رحمها وإمّا لعوارض وأمراض شخصيّة - فلا محالة لا يمكن دخولها في العموم المحكوم بهذا الحكم، فاختصاص المحمول ببعض الأصناف وعدم إمكان تصوّره في بعض آخر دليل وقرينة على تخصيص الموضوع، كما لا يخفى.
٣ - ومن الأخبار معتبرة داود بن سرحان عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: «عدّة المطلّقة ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر إن لم تكن تحيض»(٣٢).
بتقريب أنه عليه السلام حكم على المطلّقة بالاعتداد ثلاثة أشهر أو ثلاثة قروء، وإطلاقها شامل لجميع المطلّقات، فيستفاد منها تلك القاعدة الكلّية.
إلاّ أنّ لقائل أن يمنع إطلاقها، ولذلك إنّ الظاهر أنّه عليه السلام في مقام بيان مقدار عدّة المطلّقة وكمّيتها، وأمّا أنّ هذه العدّة ثابتة في جميع الموارد أو بعضها فهو امر آخر ليس في مقام بيانه.
٤ - ومنها صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا ينبغي للمطلّقة أن تخرج إلاّ بإذن زوجها حتى تنقضي عدّتها ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر إن لم تحض»(٣٣). وتقريب دلالتها يظهر ممّا ذكرناه ذيل سابقتها، فالجواب عنه أيضاً يظهر ممّا مرّ فإنّه عليه السلام في مقام بيان أنّه ليس للمطلّقة أن تخرج في زمان العدّة، ثمّ بيّن كمّيتها. وأمّا إنّ كل مطلّقة محكومة بالاعتداد أم لا، فهو أمر آخر ليس في مقام بيانه.
ومنه يظهر الكلام تقريباً وجواباً في رواية محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «المطلّقة تعتدّ في بيتها ولا ينبغي لها أن تخرج حتى تنقضي عدّتها، وعدّتها ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر إلاّ أن تكون تحيض»(٣٤).
فالحقّ أنّه ليس هنا قاعدة عامّة تقتضي ثبوت العدّة لجميع المطلّقات لتكون هي المرجع إذا قصرت أيدينا عن التمسّك بدليل خاصّ.
وكيف كان، فمفروض البحث قيام الدليل على أن لا عدّة في اليائسة والصغيرة والقول بعدمها فيهما، وليس البحث في ذلك، وإنّما الكلام في من قلع واُخرج رحمها هل هي ملحقة بهما أو لا؟
وحينئذٍ فيتمحّض الكلام في أنّه هل قام دليل على أنّ طلاق المنقلعة الرحم أيضاً من أقسام الطلاق البائن حتى تكون هي أيضاً محكومة بأن لا عدّة عليها في الطلاق كاليائسة والصغيرة؟ فنقول:
يمكن الاستدلال لمحكوميّتها بحكم اليائسة والصغيرة بطوائف من الأخبار:
الطائفة الاُولى: ما تدلّ على أنّ من لا تحبل مثلها لا عدّة عليها:
١ - فمنها ما عن الكافي والتهذيبين بإسناد صحيح عن صفوان عن محمّد بن حكيم عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: «التي لا تحبل مثلها لا عدّة عليها»(٣٥).
والكلام فيه امّا في السند، وامّا في الدلالة:
أمّا سنده، فليس فيه أحد يتأمّل في وثاقته، إلاّ محمّد بن حكيم، فإنّه وإن سلّم أنّه الخثعمي إلاّ أنّه مع ذلك لم ينصّ على توثيقه، إذ لم يرد في محمّد بن حكيم أزيد من «أنّ أبا الحسن عليه السلام كان يأمره أن يجالس أهل المدينة في مسجد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأنّ يكلّمهم ويخاصمهم، حتى كلّمهم في صاحب القبر، فكان إذا انصرف إليه، قال له: ما قلت لهم؟ وما قالوا لك؟ ويرضى بذلك منه»(٣٦). وهذا الارتضاء لا يدلّ على أنّه كان ثقة في الحديث، نعم قد روى الحديث عنه صفوان الذي لا ريب في أنّه صفوان بن يحيى، وهو من الثلاثة الذين ذكر الشيخ في العدّة «أنّهم من الثقات الذين عرفوا بأنّهم لا يروون ولا يرسلون إلاّ عمّن يوثق به»(٣٧)، مضافاً إلى أنّه من أصحاب الإجماع، من الستّة الثالثة، فبناءً على الأخذ بظاهر كلام الشيخ - كما ليس ذلك بالبعيد - يكون سند الرواية معتبراً، واللّه العالم.
وأمّا دلالته، فقد حكم بأنّه لا عدّة على «التي لا تحبل مثلها» فجعل موضوع حكم انتفاء العدّة أن تكون المرأة داخلة تحت عنوان «التي لا تحبل مثلها» فيعمّ ما نحن فيه، ويقتضي أن لا يكون عدّة على من انقلع رحمها.
وبيانه: إنّ عدم حمل امرأة تارة يحتمل فيه أن يكون لخصوصية شخصيّة عارضة ربّما ترتِفع بمرّ الزمن فيحتمل ارتفاعها كلّ آن، فعدم الحمل إذا كان من هذا القبيل فلا أثر له في انتفاء العدّة، وتارة اُخرى يكون مستنداً إلى جهة واضحة توجب أن لا تحمل كلّ امرأة وجدت فيها هذه الجهة، ويصحّ أن يقال: إنّ هذه المرأة لا تحبل مثلها، فهذه هي موضوع الحكم في الحديث، فحينئذٍ هذه المرأة ومثلها إذا طلّقت فلا عدّة عليها.
وهذا كما في الصغيرة التي لم تبلغ، والعجوز التي جازت سنّ المحيض، وكالمرأة التي قلع رحمها من رأس، فهي أيضاً داخلة تحت عموم الموضوع فيعمّها الحكم بلا إشكال.
وانحصار مصداق الموضوع في مثل زمان صدور الحديث بخصوص القسمين الأوّلين لا يوجب انحصار مفهومه فيهما، بل يعمّ جميع ما كان داخلاً تحت العموم، لا سيّما وانّ تعليق الحكم المذكور على هذا العنوان فيه إشعار قوي بأنّ تمام الملاك لانتفاء العدّة إنّما هو أنّها لا تحبل، وهو موجود قطعاً في موضوع البحث، كما لا يخفى. وبالجملة، فدلالة الحديث على عدم وجوب العدّة على المرأة التي قلعت وأخرجت رحمها لا ينبغي الريب فيه.
إن قلت: إنّ الزوج إذا كان به علّة واضحة لا يقدر معها على الوقاع بل ولا على الإنزال فيصدق على زوجته أنّها لا يحبل مثلها، فإذا طلّقها كان مقتضى الحديث أن لا يكون عليها عدّة مع أنّه معلوم البطلان.
قلت: إنّ ظاهر الحديث أن تكون المماثلة للمرأة موجبة لعدم الحمل، وهي من قبيل الوصف بحال نفس الموصوف، فظاهرها اتّصاف المرأة نفسها بصفة توجب عدم الحبل كما في الصغيرة، ولا تعمّ ما إذا كانت المرأة نفسها لا علّة واضحة بها كما في مورد النقض.
إن قلت: إنّ نفس العنوان المأخوذ في الحديث وإن كان بمفهومه شاملاً لمقلوعة الرحم إلاّ أنه منصرف إلى المصداق المتعارف في ذلك الزمان، وهي الصغيرة والعجوزة.
قلت: لا نسلّم الانصراف لا سيّما وأن العنوان مذكور ابتداءً في كلام الإمام عليه السلام بل أن جعل الحكم على الموصول وذكر الصلة الخاصّة له يكون فيه دلالة على سرّ الحكم وأنه لا عدّة عليها، لأنّها لا تحبل، ويوجب قوّة ظهوره في الإطلاق.
٢ - ومنها مرسل جميل بن درّاج - المروي عن الكافي والفقيه والسرائر - عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهما السلام في الرجل يطلّق الصبية التي لم تبلغ ولا يحمل مثلها وقد كان قد دخل بها والمرأة التي قد يئست من المحيض وارتفع حيضها ولا تلد مثلها قال: «ليس عليهما (عليها - خ سرائر) عدّة وإن دخل بهما (بها - خ سرائر)» (٣٨).
وفي سند الحديث إرسال، أرسله جميل بن درّاج عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهما السلام كما في الكافي(٣٩) والسرائر(٤٠) - وجميل من أصحاب الإجماع، وهو أفقه الستة الثانية من أصحاب الإجماع، وهو أفقه الستّة الثانية من أصحاب أبي عبد اللّه عليه السلام، إلا أنّ مجرّد ذلك غير كافٍ في اعتبار السند.
لكن عبارة الصدوق في الفقيه - بعد نقل موثّقة الحلبي(٤١) عن أبي عبد الله عليه السلام هكذا: «وفي رواية جميل: أنّه قال في الرجل يطلّق الصبية التي لم تبلع ولا يحمل مثلها، وقد كان دخل بها، والمرأة التي قد يئست من المحيض وارتفع طمثها ولا تلد مثلها، فقال: ليس عليهما عدّة» (٤٢) وظاهره أن جميلاً قد روى الحديث بلا إرسال عن أبي عبد اللّه عليه السلام، فيكون صحيح السند.
اللّهمّ إلا أن يقال - بعد وحدة متن الحديث في الكتب الثلاثة، وبعد كون الراوي في جميعها جميل بن درّاج-:
أن العرف يحكم بأنّ الحديث المروي في الكتب الثلاثة حديث واحد، والتصريح بالإرسال في الكافي والسرائر قرينة على أن مراد الصدوق أيضاً من تعبيره برواية جميل أن آخر من ذكر في سند الحديث هو جميل، وإن كان هو قد أرسله عن المعصوم عليه السلام، وهو وإن كان خلاف الظاهر إلا أنه لا بأس بالمصير إليه في مقام الجمع. وإن أبيت فبعد استظهار وحدة الحديث يكون من باب تعارض نقله قدس سره لنقلهما، ولازمه التساقط وعدم ثبوت حجّية السند، هذا كلّه من جهة سنده.
وأمّا دلالته، فلا يبعد أن يقال: إن ذكر عبارة«ولا تحمل مثلها» أو «ولا تلد مثلها» بعد ما ذكر «أن الصبية لم تبلغ وأن المرأة قد يئست من المحيض وارتفع حيضها» ظاهر عرفاً في أن تمام السرّ والملاك في الحكم بنفي العدّة إنمّا هو أن مثلها لا تحمل ولا تلد، وأن ملاك الحكم بانتفاء العدّة في الموردين والموضوع الأصيل فيهما واحد، هو أنّها لا تحمل ولا تلد مثلها، فالصبية أو اليائسة بما أنّها لا تلد ولا تحمل ليس عليهما عدّة، فكأنه عليه السلام قال التي لا تحمل مثلها ولا تلد مثلها فلا عدّة عليها، وحينئذٍ يعمّ الحكم لما نحن فيه، أعني المرأة التي قلعت وأخرجت رحمها.
٣ - ومنها ما عن التهذيب عن جميل بن درّاج عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهما السلام: «في الرجل يطلّق الصبيّة التي لم تبلغ ولا تحمل مثلها فقال: ليس عليها عدّة وإن دخل بها»(٤٣).
وفي سند الحديث - مضافاً إلى الإرسال المذكور - عليّ بن حديد الذي نقل عن الشيخ قدس سره تضعيفه في التهذيبين (٤٤)، نعم هي في الدلالة مثل المرسل السابق، بل يحتمل قوّياً أن يكون تقطيعاً منه، واللّه العالم.
وقد يعدّ من معارضات هذه الطائفة صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام أنه قال: «في التي تحيض في كلّ ثلاثة أشهر مرّة أو في ستّة أو في سبعة أشهر، والمستحاضة التي لم تبلغ الحيض، والتي تحيض مرّة ويرتفع مرّة، والتي لا تطمع في الولد، والتي قد ارتفع حيضها وزعمت أنّها لم تيأس، والتي ترى الصفرة من حيض ليس بمستقيم، فذكر أن عدّة هؤلاء كلّهن ثلاثة أشهر»(٤٥) حيث ذكر في من عدّتها ثلاثة أشهر «التي لا تطمع في الولد» وهي عبارة اُخرى عن التي لا تحبل ولا تلد، فيكون معارضاً لما سبق.
لكنّه لا يبعد أن يقال: إن ظاهر سياق الحديث أنه بصدد عدّ طوائف من النساء خرجت عن المعهود من النساء وكانت على خلاف المتعارف، وعليه فالمراد بالمرأة «التي لا تطمع في الولد» - بقرينة أن إطلاقها يشمل ما إذا كانت مستقيمة الحيض وقتاً وعدداً- خصوص المرأة
التي تكون عقيمة لم تحبل طول الزمان مع أن لها زوجاً لا علّة به وكان عدم حملها مستنداً إلى
عارض شخصي غير معلوم، ولا تعمّ من كان لعدم حبلها سبب معلوم لا تحبل مثلها، ولو سلم بقرينة ما سبق من الأخبار.
هذا تمام الكلام عن الطائفة الاُولى.
الطائفة الثانية: ما تدّل على أن من لا تحيض مثلها لا عدّة عليها.
١ - منها صحيحة حمّاد بن عثمان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «سألته عن التي قد يئست من المحيض والتي لا تحيض مثلها قال: ليس عليها عدّة»(٤٦).
بين الاستدلال بها:
إن تمام موضوع السؤال هو عنوان «التي لا تحيض مثلها»، وهي شاملة لمن قلعت واخرجت رحمها، فإنّ الرحم مبدأ دم الحيض، فالمرأة التي أخرجت رحمها لا تحيض مثلها، فلا محالة يحكم عليها بأنّها لا عدّة عليها.
فإن قلت: أن هذا العنوان المطلق قد وقع في كلام السائل، وحيث إن قلع الرحم وإخراجها أمر حادث اقتضته التطوّرات العلمية الحديثة، فلا محالة كان مصداقه في ذلك الزمان منحصراً في الصغيرة التي لم تبلغ سنّ الحيض، ولذا كان ذكره في لسان السائل منصرفاً إلى خصوص الصغيرة، فلا ينعقد له في كلام السائل إطلاق عامّ لما نحن فيه، والإمام عليه السلام جعل ما ذكره السائل موضوعاً لحكمه، فيختصّ الحكم المذكور في كلامه عليه السلام أيضاً بخصوص الصغيرة.
قلت: هذا غاية تقريب نفي الشمول، إلا أنه مع ذ لك كلّه أيضاً يمكن أن يقال: إن التعرّض لانتفاء الحيض عن المطلّقة في كلام السائل يعطي أن في ذهنه ارتباطاً بين التحيّض والاعتداد.
ولعلّه نشأ ممّا سمعه عنهم عليهم السلام من قولهم: «العدّة من الماء»(٤٧) وقولهم «أما عدّة المطلّقة ثلاثة قروء فلاستبراء الرحمن من الولد»(٤٨). فارتكز في ذهن هذا الفقيه العظيم الذي أجمعت العصابة على تصحيح ما صحّ عنه أن الاعتداد إنمّا هو لمكان الاطمئنان من عدم الحبل، فإذا كانت المرأة لا تحيض فهذا الاطمئنان حاصل بنفسه، فلا حاجة إلى الاعتداد، فلأجل هذا الارتكاز قام بصدد السؤال ليطمئنّ قلبه بما ارتكز عليه ذهنه.
وعليه، فتمام الموضوع عنده هي التي لا تحيض مثلها، وخصوصية عدم بلوغ سنّ الحيض أو الخروج عنه لا أثر لها عنده، فإذا اُجيب بقوله عليه السلام: «ليس عليها عدّة» فهم أن تمام الموضوع لعدم الاعتداد هو ما ارتكز عليه ذهنه، فإذا حدث له مصداق آخر بمقتضى التقّدم العلمي الحديث لما كان ريبة في محكوميّتة أيضاً بحكم ذينك المصداقين الطبيعيين.
٢ - ومنها معتبرة عبد الرحمان بن الحجاج قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «ثلاث يتزوّجن على كلّ حال، التي لم تحض ومثلها لا تحيض، قال: قلت: وما حدّها؟ قال: إذا أتى لها أقلّ من تسع سنين، والتي لم يدخل بها، والتي قد يئست من المحيض ومثلها لا تحيض، قلت: وما حدّها؟ قال: إذا كان لها خمسون سنة »(٤٩).
وبيان الاستدلال به أن العناوين الثلاثة، ولا سيّما بعد التفسير المذكور فيه وإن لم يعمّ شيء منها ما هو محل الكلام، إلا أنه مع ذلك فليس ببعيد دعوى أن المفهوم منها أن من لا تحيض مثلها فليس عليها عدّة، والعنوانان المذكوران فيه مصداق لهذا الكّلي، ولا خصوصية لعدم بلوغ سنّ المحيض، ولا للخروج عنه، بل تمام الموضوع لنفي الاعتداد هو أن تكون ممّن لا تحيض مثلها، وهو عامّ لمحلّ الكلام.
وبعبارة اُخرى: إن تعليق الحكم على عنوان «التي لا تحيض ومثلها لا تحيض» شاهد على أن تمام الملاك والعلّة لانتفاء العدّة إنمّا هو كونها لا تحيض ومثلها لا تحيض، لا أن ملاك الحكم هو السنّ الخاص، وإلا كان المناسب أن يقول «التي لم تبلغ التسع، والتي جاوزت الخمسين» فالعدول إلى ما في الحديث، ولا سيمّا تكرار جملة «ومثلها لا تحيض» فيه شهادة واضحة على ما ذكرنا.
٣ - ومنه تعرف إمكان الاستدلال بصحيحة زرارة عن أبي عبل اللّه عليه السلام في الصبية التي لا تحيض مثلها والتي قد يئست من المحيض قال: «ليس عليهما عدّة وإن دخل بهما»(٥٠).
وتعبيرنا بالصحيحة بناء على نسخة التهذيبين، وإلا فنسخة الكافي مكان «زرارة » «من رواه»، فتكون مرسلة أرسلها حماد بن عثمان أحد أصحاب الاجماع، لكنّه لا يضرّ بصحّة سند ما في التهذيب والاستبصار بعد احتمال أن يكون حمّاد رواها بوجهين، نعم لو اطمأننّا أن الحديث واحد وإنمّا جاء الاختلاف لتشابه صورة «عن زرارة» و «عمّن رواه» في الكتابة لما كان يثبت لها سند يحكم عليه بالصحّة، وكانت النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمتين كما لا يخفى، وبعد ذلك كلّه فالأمر سهل.
فالحاصل: أن المستفاد من هذه الطائفة من الأخبار أن من لا تحيض مثلها من المطلّقات فليس عليها عدّة، وهذا العنوان له مصاديق ثلاثة: اثنان منها طبيعيان هما، من لم تبلغ سنّ المحيض ومن خرجت عنه سنّة، والثالث اقتضاه التقّدم العلمي الحدي، وهي من قلع واُخرج رحمها، وحيث إن تمام الموضوع هي من لا تحيض مثلها وهي صادقة ومتحقّقة في جميع المصاديق، فيتبعها الحكم: أعني عدم الاعتداد، هذا.

ما دل على وجوب العدّة على من لا تحيض
إلا أن هنا عدد من الأخبار ربّما تدلّ على ثبوت العدّة على المطلّقة التي لا تحيض ثلاثة أشهر، وهذه الأخبار على لسانين:
أحدهما: ما يكون بلسان «التي لا تحيض مثلها» وهو خبر محمّد بن حكيم قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام فقلت: المرأة التي لا تحيض مثلها ولم تحض كم تعتّد؟ قال: ثلاثة أشهر، قلت: فإنهّا ارتابت قال: تعتدّ آخر الأجلين، تعتدّ تسعة أشهر، قلت: فأنهّا ارتابت، قال: ليس عليها ارتياب، لأن الله عزّوجلّ جعل للحبل وقتاً فليس بعده ارتياب»(٥١).
فموضوع سؤاله هو «المرأة التي لم تحض ولا تحيض مثلها» وهو عين موضوع أخبار الطائفة الثانية، وقد حكم عليه السلام عليها بالاعتداد ثلاثة أشهر، وهو مناقض لما تضمّنته أخبار هذه الطائفة، كما لا يخفى.
ثانيهما: ما أَسند فيه عدم التحّيض إلى نفس المرأة من دون إسناد له إلى مثلها، وهي أخبار متعّددة:
١ - منها صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «عدّة المرأة التي لا تحيض، والمستحاضة التي لا تطهر ثلاثة أشهر، وعدّة التي تحيض ويستقيم حيضها ثلاثة قروء... الحديث»(٥٢).
٢ - ومنها صحيحة أيضاً عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «عدّة المرأة التي لا تحيض، والمستحاضة التي لا تطهر، والجارية قد يئست ولم تدرك الحيض ثلاثة أشهر، والتي يستقيم حيضها ثلاث حيض، متى ما حاضتها فقد حلّت للأزواج»(٥٣) وهذه العبارة لفظ التهذيب، ورواه الصدوق في الفقيه بحذف «ولم تدرك الحيض» عن وسطه وحذف «متى ما حاضتها الخ» عن آخره(٥٤).
٣ - ومنها صحيحة ابن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: في الجارية التي لم تدرك الحيض، قال: «يطلّقها زوجها بالشهور، قيل: فإن طلّقها تطليقة ثمّ مضى شهر ثمّ حاضت في الشهر الثاني قال - الحدي»(٥٥).
٤ - ومنها خبر أبي بصير قال: «عدّة التي لم تبلغ الحيض ثلاثة أشهر، والتي قد قعدت من المحيض ثلاثة أشهر»(٥٦).
٥ - ومنها معتبرة أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «عدة التي لم تحض والمستحاظة التي لا تطهر ثلاثة أشهر، وعدّة التي تحيض ويستقيم حيضها ثلاثة قروء، والقرء جمع الدم بين الحيضتين»(٥٧).
فهذه الأخبار فقد حكمت على «التي لم تحض ولا تحيض مثلها» أو «التي لا تحيض» أو «التي لم تدرك الحيض» ونحوها بالاعتداد ثلاثة أشهر، وهو مناف - بنفس العنوان في الأوّل وبإطلاقه في غيره - لما حكمت عليه أخبار الطائفة الثانية من عدم الاعتداد.

مناقشة هذه الآدلة
والحقّ أن عن معارضُ هذه الأخبار جوابين: أحدهما عام لجميعها والثاني خاصّ بكلّ منها.
أما الجواب العام عن جميع هذه الأخبار المعارضة، فهو أنها من أخبار قول السيدين، وقد عرفت أن بحثنا هذا متفرّع على قول المشهور من عدم اعتداد اليائسة والصغيرة، أعني أن بحثنا مفروض بعد رفع اليد عن مثل هذه الأخبار بما هو مقرّر في ذاك البحث.
وأما الجواب الخاصّ عن كل منها، فما عدا خبر محمّد بن حكيم مطلق شامل لمن لا تحيض مثلها ولغيرها، وأخبار الطائفة الثانية خاصّة بمن لا تحيض مثلها حاكمة بأن لا عدّة عليها، فتكون قرينة على تقييد هذه الأخبار بغيرها، ممّن كان عدم حيضها لعوارض شخصيّة بعد وقوعها في سنّ من تحيض.
وقد صرّح به شيخ الطائفة في التهذيب والاستبصار فإنه قدس سره في التهذيب - بعد أن استدل لعدم وجوب الاعتداد على المطلّقة الصغيرة والآيسة بجملة من الأخبار - قد ذكر معارضاً لها خبر أبي بصير وصحيح الحلبي، ثمّ قال: «فلا تنافي بين هذين الخبرين وبين ما قدّمنا، لأنا نحملهما على المسترابة التي مثلها تحيض، وليس فيهما أن مثلها لا تحيض، فإذا كان كذلك حملناهما على ما يوافق الأخبار المتقدّمة، ولا تضادّ، والذي يدلّ على صحّة ذلك قوله تعالى: (وَالائِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مَن نِسَائَكُمْ إِنِ ارْتَبْتُم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَالّلائِي لَمْ يَحِضْنَ)(٥٨) فشرط في وجوب العدّة عليهما الريبة، وذلك دالّ على ما قدّمناه»(٥٩). ونحوه أفاد في الاستبصار في باب عدم العدّة على الصغيرة واليائسة فراجع(٦٠).
وأما خبر محمّد بن حكيم، فمتنه المنقول في الكتب هو ما مرّ إلا أنه لا يخلو عن اضطراب، فإنّ «المرأة التي لم تحض ومثلها لا تحيض» هي الصغيرة التي لم تبلغ سنّ الحيض، ولا مجال في مثلها لارتياب الحمل المذكور في الخبر، ولذلك فيحتمل فيه تحريف من النسّاخ أو وهم من الراوي.
بل الرجوع فيه إلى سياق عبارة التهذيب يعطي أنّه قد وقع فيه زيادة لفظة «لا» من النسّاخ وأنّ الصحيح «المرأة التي تحيض مثلها ولم تحض كم تعتدّ» فيكون موضوع سؤاله قسماً من المسترابة.
وذلك إنّ الشيخ قدس سره - بعد دفع المنافاة بين خبر أبي بصير وصحيح الحلبي وبين سائر الأخبار بما مرّ آنفاً وحملهما على المسترابة - قال:
«والذي يزيد ما قدّمناه بياناً - من أنّ عدّة المسترابة ثلاثة أشهر - ما رواه أحمد بن محمّد بن عيسى فذكر صحيحة إسماعيل بن سعد الأشعري ثمّ صحيحة زرارة ثمّ خبر محمّد بن حكيم هذا»(٦١).
فقد ذكر هو قدس سره خبر محمّد بن حكي