إن استطعت أن لا يكون بينك وبين الله ذو نعمة فافعل. ( نهج البلاغة ٣: ٥١)      كن سمحاً ولا تكن مبذراً، وكن مقدراً ولا تكن مقتراً. ( نهج البلاغة ٤: ١٠)      مرارة الدنيا حلاوة الآخرة، وحلاوة الدنيا مرارة الآخرة. ( نهج البلاغة ٤: ٥٥)      كن سمحاً ولا تكن مبذراً، وكن مقدراً ولا تكن مقتراً. ( نهج البلاغة ٤: ١٠)      من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها. ( نهج البلاغة ٤: ٤١)      
الدروس > بحث خارج > فقه > الحج الصفحة

حقيقة الإحرام
بسم الله الرحمن الرحيم
وينبغي إجراء الكلام أولاً في حقيقة الإحرام، قال في النهاية: (الإحرام: مصدر احرم الرجل يحرم إحراماً إذا أهلّ بالحج أو بالعمرة وباشر أسبابهما وشروطهما خلع المخيط واجتناب الأشياء التي منعه الشرع منها، كالطيب، والنكاح، والصيد، وغير ذلك، والأصل فيه المنع فكان المحرم ممتنع من هذه الأشياء واحرم الرجل إذا دخل الحرم وفي الشهور الحرم ومنه حديث الصلاة "تحريمها التكبير" كأن المصلّي بالتكبير والدخول في الصلاة صار ممنوعاً من الكلام والأفعال الخارجة عن كلام الصلاة وأفعالها فقيل للتكبير تحريم لمنعه المصلي من ذلك ولهذا سميت تكبيرة الإحرام أي الإحرام بالصلاة).
وقال في مجمع البحرين: (والإحرام مصدر إحرام الرجل).
والإحرام توطين النفس على اجتناب المحرمات من الصيد والطيب والنساء ولبس المخيط وامثال ذلك.
وقال في مصباح المنير: (واحرم الشخص نوى الدخول في حجّ أو عمرة ومعناه أدخل نفسه في شيء حرم به ما كان حلالاً له وهذا كما يقال: انجد إذا أتى نجد).
وفي غير ذلك من كتب اللغة: (احرم دخل في الشهر الحرام واحرم دخل في الحرم أو في حرمة لا تهتك).
وأمّا معناه ومفاده باصطلاح العلماء وكلماتهم فالمحكي عن الشيخ الأنصاري(ره) إنّ الإحرام العزم على ترك المحرمات وتوطين النفس على ترك المنهيات بل نسب ذلك إلى المشهور والتزموا لذلك على أنّه لو بنى على ارتكاب شيء من المحرمات بطل احرامه (اى لا ينعقد احرامه) لعدم كونه قاصداً للاحرام.
وأورد عليه بأن ذلك لا يستظهر من الأدلّة ولهذا لو حجّ من لم يكن عالماً بالمحرّمات صحّ حجّه واحرامه فالبناء والالتزام على الترك ليس من مقومات الاحرام.
وفيه أنه يمكن أن يقال: إنّ هذا يستفاد مما جاء في الروايات "أحرم لك لحمي ودمي وشعري وبشري عن النساء والطيب والصيد" فان معناه التوطين على دخول لحمه ووفى حرمة النساء والطيب عليها، واما صحة احرام من لم يكن عالماً بالمحرّمات وصحّة حجه فممنوعة إذا لم يكن عالماً حتّى بالاجمال وانه يحرم عليه بالاحرام بعض الأفعال، واما إذا كان عالماً بالاجمال وإن لم يعرف المحرمات بالتفصيل يكفي ذلك في تحقق الاحرام. نعم: لو قيل بأن الاحرام ليس من الأمور القصدية وليس هنا الاّ تحريم الشارع المحرمات الممنوعة على الحاج والمعتمر إذا قصد الحج أو العمرة ولبّى يتمّ ذلك.
وهذا ما يستفاد من كلام بعض الفقهاء ففي المستند قال: لا نسلم ان الاحرام غير التلبس باحد النسكين والشروع فيه مطلقاً أو بما يحرم محظورات الحج والعمرة من أجزائهما فهو لفظ معناه احد الأمرين لا أنه أمر آخر وجزء مأمور به بنفسه من حيث هو انتهى.
وقال السيد الگلپايگاني(قده) مراده (بما يحرم محظورات الحج والعمرة من أجزائهما أمّا خصوص التلبية أو مع لبس الثوبين أو هما مع نية الحج والعمرة انتهى، ولكنا لم نتحصل مراده فان ما يحرم به محظورات الحج أو العمرة ليس إلا التلبس بهما بالتلبية وفي خصوص القران بالتقليد أو الاشعار أيضاً ولابد أن يكون ذلك مقارناً لنية الحجّ والعمرة والشروع فيهما.
وكيف كان فقد بنى عليه بعض الأعلام من المعاصرين وادعى أنّ التلبية سبب للاحرام وحالها حال تكبيرة الاحرام للصلاة فهي أول جزء من أجزاء الحجّ كما أن التكبيرة أول جزء من أجزاء الصلاة وبالتلبية أو الاشعار يدخل في الاحرام ويحرم عليه تلك الأمور المعلومة وما لم يلب يجوز له ارتكابها.
وقال: ان أهل اللغة ذكروا لكلمة أحرم معنيين.
أحدهما: أن يحرم الانسان على نفسه شيئاً كان حلالاً له.
ثانيهما: أن يدخل نفسه في حرمة لا تهتك.
والمعنى الثاني نسب لأنّه يدخل بالتلبية في حرمة الله التي لا تهتك والتلبية توجب دخوله في حرمة الله فيقال: احرم أي ادخل نفسه في تلك الحرمة التي لا تهتك.
ثمّ أنه افاد زايداً على ذلك والمتحصل منه أن التلبية والاشعار والتقليد كتكبيرة الاحرام محقق لدخول الشخص في الحجّ أو العمرة كما أن تكبيرة الاحرام محقق لدخول الشخص في الصلاة والحالة التي يجب أن لا تهتك ولا تبطل بالكلام الخارج عن الصلاة وسائر المبطلات وبالتلبية أيضاً يدخل الشخص في حالة يحب أن لا تهتك بارتكاب المحرمات وليس معنى ذلك انه يقصد بالتلبية أو التكبيرة حصول تلك الحالة التي نعبر عنها بالاحرام وعن المتلبس بها بالمحرم أو يقصد بها ترك المنهيات بل الاحرام وهذه الحالة التي يجب أن لا تهتك يترتب على التلبية قهراً غاية الأمر أن التلبية سبب للاحرام وإن لم يقصد الملبي ترك المنهيات بها ولا يعقل أخذ هذه المنهيات والمحرمات في معنى الاحرام والاّ لزم الدور لأنّه يؤل الى أن يكون حرمة هذه المحرمات متوقفة على الاحرام وكون الاحرام متوقفاً على حرمة المحرمات وبعبارة اخرى: صيرورته محرماً تتوقف على كون المحرمات محرمة عليه وتحريمها متوقف على كونه محرماً.
والقول الآخر إنّ الاحرام حقيقته النية والتلبية ولبس الثوبين وهو المحكي عن المختلف في العلامة.
والرابع انّه النية والتلبية وهو المحكي عن الحلّي.
والخامس انه النية وهو المنقول عن ظاهر المبسوط والجمل.
والسادس انه انشاء تحريم الاعمال التي حرمها الشارع على المحرم والبناء على كونه حراماً عليه كالناذر الذي ينشئ وجوب فعل أو حرمته على نفسه وكونه مديوناً لله تعالى وينشئ اشتغال ذمته له تعالى.
والظاهر أن هذا هو مختار السيد الفقيه الگلپايگانى(قده) كما قال في تقريرات درسه: وبالجملة الأظهر أن الاحرام أمر انشائي يوجده المحرم بتحريم المحرمات على نفسه وإن كان لا يؤثر في التحريم قبل التلبية، كما هو المستفاد من المحقق في الشرايع حيث قال في بيان كيفية الحجّ: فصورته أن يحرم من الميقات للعمرة ـ إلى أن قال ـ ثم ينشئ احراماً آخر للحجّ من مكّة الظاهر في أن الاحرام أمر انشائي، وقد عبر بمثل ذلك في التحرير والسرائر.
وقال بعض الأعاظم في تعليقته على العروة: إنّ الإحرام من العناوين القصدية لا يمكن تحققه بدون القصد إليه.
ولا ينافى ما ذكرناه قولهم في كيفية الاحرام: ان واجباته ثلاثة النية ولبس الثوبين والتلبية، وكذا قولهم: ان الاحرام مركب من النية ولبس الثوبين والتلبية أو الاشعار والتقليد، فإن وجوب تلك الامور في الإحرام لا يلزم كونه عبارة عن تلك الأمور لا غيرها بل يدل على أن الاحرام بأي معنى كان يصح بدونها.
وأما كونه مركباً من الامور المتقدمة فمعناه أنه لا يحكم شرعاً بتحريم المحرمات الا بعد الامور المذكورة من النية ولبس الثوبين والتلبية أو الاشعار والتقليد، ولا يكفى مجرد انشاء التحريم من المحرم، بل يحتاج في ترتب الاثر على انشائه شرعاً إلى التلبية أو الاشعار.
والسابع ما عن كاشف الغطاء: قال في كشفه على ما حكى عنه: ان حقيقة الاحرام عبارة عن حالة تمنع عن فعل شيء من المحرمات المعلومة ولعل حقيقة الصوم أيضاً كذلك فهما عبارة عن المحبوسية عن الأمور المعلومة فيكون غير القصد والكفّ والترك والتوطين فلا يدخلان في الأفعال ولا الاعدام بل هما حالتان متفرعتان عليها ولا يجب على المكلفين من العلماء فضلاً عن العوام الاهتداء الى معرفة الحقيقة والاّ لزم بطلان عبادة أكثر العلماء وجميع العوام وربما يكون هنا غير ذلك من الوجوه والأقوال.
ويمكن أن يقال: انه يتحقق بالشروع في ترك المنهيات أو قبل بعض الواجبات كخلع المخيط ولبس الثوبين أو التلبية أو الاشعار والتقليد.
وكيف كان فالقول الثاني أي كون التلبية سبباً للاحرام والدخول في الحجّ والعمرة كتكبيرة الاحرام التي هي سبب لحرمة ما تبطل باتيانه الصلاة ودخول الشخص في الصلاة والحالة التي يحب أن لا تهتك باتيان المبطلات وان لم يكن نادياً ترك المنهيات ولم يكن عالماً به. ففيه: انه خلاف الظاهر من كون الاحرام للحجّ أو العمرة من اعمالهما ولو كان ذلك بنية ترك المحرمات وكونه عازماً عليه عند التلبية نعم إذا كان ملتفتاً بالاجمال إلى المحرمات ولبى يكفي ذلك في الاحرام ولا يكفي التلبية لمجرد الحجّ أو العمرة اللتين هما الطواف وصلاته والسعي وبالجملة: لا تكفي التلبية للحجّ والعمرة إذا كانت خالية عن نية ترك المحرمات ولو اجمالاً.
بل يمكن أن يقال ان المصلي أيضاً لا يدخل في الصلاة بمجرد تكبيرة الاحرام إذا لم يكن عارفا بما تبطل به الصلاة وبما يمنع من الدخول فيها ولو اجمالاً وعازماً على تركه.
ولا يلزم الدور من أخذ هذه المنهيات في الاحرام فانه يلزم ذلك لو أخذ فيه هذه المحرمات بهذا العنوان الذي لا يأتي إلاّ من قبل الاحرام أما لو أخذ فيه ترك ذواتها وقلنا بترتب الحرمة الشرعية عليه لا يلزم الدور.
والحاصل أن رفع اليد عنه اعتبار نية الاحرام وادخال نفسه فيه بنية ترك المحرمات أو التلبية المقارنة لتلك النية وتوطين النفس على تركها خلاف ظاهر الروايات من كونه عملاً قصدياً لا قهرياً غير عمدياً هذا مضافاً إلى امكان دعوى دلالة مثل قوله تعالى {لا تقتلوا الصيد وانتم حرم} وقوله عزّ اسمه {زياد غير محلي الصيد وأنتم زياد حرم} وقوله سبحانه وتعالى {حرم عليكم صيد البر مادمتم حرماً} على أن عنوان الاحرام والمحرم كان معتبراً عندهم وليس معنى {وانتم حرم} و{مادمتم حرماً} وانتم حاجاً أو عماراً.
هذا كله في القول الثاني وأمّا الاقوال التي أخذ فيها زيادة النية الثالث {انه النية والتلبية ولبس الثوبين}، والقول الرابع دانه النية والتلبية، والخامس (انه مجرد نية) فاستشكل في المستمسك فيها بأن أخذ النية في مفهوم الاحرام غير معقول لانه فعل اختياري يقع عن نية تارة ولا عنها اخرى، ولذلك اعتبروا في صحّته النية ومن المعلوم أن النية لا تكون موضوعاً للنيّة فالاقوال الثلاثة الاول على ظاهرها غير معقولة ولعلّها مبنية على المسامحة.
ويمكن دفع هذا الاشكال بأن النية التي قيل بأنّها منفردة أو مع التلبية أو معها ومع لبس الثوبين احرام ليس المراد منها نية الاحرام بل المراد فيه ترك المحرمات المعلومة ومع التلبية ولبس الثوبين فهذه النية منفردة أو منضمة إليهما مصداق للاحرام أي الحالة التي تكرم وتقدس بترك المحرمات مضافاً إلى اننا لم نتحصل مراده من كون الاحرام فعلاً اختيارياً يقع عن نية تارة ولا عنها اخرى فان كان مراده من الاحرام ترك المحرمات فلا ريب في أنّه يقع تارة بالاختيار وبالقصد والنية واخرى بدون الاختيار والقصد الاّ انه ليس الاحرام مجرد ترك المحرمات سواء وقع ذلك بالقصد والعمد والاختيار أو بدونه وان كان المراد من الاحرام عنوان قصدي لا يتحقق الاّ بالنية فمن يقول الاحرام النية مراده انه عنوان يتحقق بها او بها وبالتلبية لا ان هذه النية تكون موضوعاً لنية اخرى ويرجع معناه الى انه ينوي في نفسه انه محرم ويبني عليه وكيف كان لا يقع هذا المعنى بدون النية.
وأما السابع فحسبه يكون الاحرام صفة وحالة نفسانية تمنع من فعل المحرمات كصفة العدالة وهو بالمسائل المذكورة في علم الاخلاق اشبه بما يذكر زياد في الفقه مضافاً إلى أنّه لا يستفاد من الادلة فنبقي نحن والقول الأوّل والثالث والرابع والخامس والسادس فاللازم النظر الى روايات الباب ودلالتها حتى نعرف أوفق هذه الاقوال اليها وارجحها بملاحظتها والله هو الهادى.
فنقول فمن الاخبار طائفة منها تدل على ان الاحرام عنوان واعتبار يوجد بفعل الشخص وانه لا يكفيه مجرد التلبية للحجّ أو العمرة إذا لم تكن بنية ترك المحرمات والدخول في حال يحرم فيه عليه المحرمات ولا ينطبق عليه عنوان المحرم بدون ذلك فليس المحرم كالمصلي بل ما هو مثله الحاج أو المعتمر.
فمن هذه الاخبار زياد ما رواه الشيخان مسنداً والصدوق مرسلاً عن ابى المغرا عن ابي عبدالله(ع) قال: كانت بنو اسرائيل اذا قربت القربان تخرج نار تأكل قربان من قبل منه وان الله جعل الاحرام مكان القربان.
فانه يدل على ان الاحرام فعل اختياري وعنوان لا يصدق بدون التهيوء والالتفات اليه بمجرد التلبية للحجّ أو العمرة.
وما رواه الصدوق في العلل بأسانيده عن الفضل عن الرضا(ع) وانما امروا بالاحرام ليخشعوا قبل دخولهم حرم الله وامنه ولئلا يلهو ويشتغلوا بشيء من امور الدنيا وزينتها ولذاتها ويكونوا جادين (صابرين) فيما هم فيه قاصدين نحوه الحديث.
ومما يدل على ذلك ما فيه أن يقول عند الاحرام (احرم لك شعري وبشري ولحمي ودمي وعظامي ومخي وعصبي من النساء والثياب والطيب ابتغى بذلك وجهك والدار الآخرة).
ومن هذه الاخبار ما فيه لفظ الاحرام ويحرم مثل قبل ان يحرم وعقد الاحرام وغيرها من الالفاظ فان حمل هذه على التلبية المجردة عن نية الاحرام بعيد جداً.