من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها. ( نهج البلاغة ٤: ٤١)      سل عن الرفيق قبل الطريق، وعن الجار قبل الدار: نهج البلاغة ٣: ٥٦)      كل وعاء يضيق بما جعل فيه إلا وعاء العلم فإنّه يتسع. ( نهج البلاغة ٤: ٤٧)      من أكثر من ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير. ( نهج البلاغة ٤: ٨١ ـ ٨٢ )      بكثرة الصمت تكون الهيبة. ( نهج البلاغة ٤: ٥٠)      
الدروس > بحث خارج > فقه > البيع الصفحة

تعريف البيع لغة وعرفاً
بسم الله الرحمن الرحيم
تعريف البيع في كلمات الفقهاء
ولنذكر أولاً ما ذكره شيخنا الأعظم ـ قدس سره ـ في بدء كلامه في المقام تيمناً به، واستمداداً من نفسه القدسيّة، ومقدمة لما يُبنى عليه من الأبحاث الآتية.
فنقول: ومنه سبحانه وتعالى نستمد التوفيق والهداية، قال في صدر البحث عند بيان معناه اللغوي والعرفي ما حاصله:
إنّ البيع في الأصل ـ كما عن (المصباح المنير) ـ مبادلة مال بمال.
ثم قال: الظاهر اختصاص المعوّض بالأعيان، فلا يُطلق البيع على إبدال المنافع إلاّ مجازاً ومسامحة، كالتعبير ببيع خدمة العبد المدبّر، وبيع سكنى الدار، وبيع الأراضي الخراجية. ثمّ قال: هذا بالنسبة إلى المعوّض، أمّا العوض فلا يخلو عن أمور أربعة:
١ـ العين.
٢ـ المنافع.
٣ـ عمل الحر.
٤ـ الحقوق.
أمّا الأوّل فلا شك في صحته، وأمّا المنافع فكذلك، كما صرّح به غير واحد منهم، وما يقال من أنّ البيع لنقل الأعيان يُراد به بيان المبيع، وأمّا عمل الحر فهو يُبنى على كونه مالاً قبل المعاوضة عليه، وفيه إشكال.
وأمّا الحقوق فهي على أقسام:
١ـ ما لا يقبل النقل والإسقاط كـ(حق الولاية)، فلا إشكال في عدم وقوعه ثمناً، ودليله ظاهر.
٢ـ ما يقبل الإسقاط فقط كـ(حق الخيار، وحق الشفعة)، فهو أيضاً كذلك؛ للزوم كون الثمن ممّا يقبل النقل إلى البايع.
٣ـ ما يقبل الانتقال كـ(حق التحجير) ففيه إشكال؛ لأخذ المال في عوضي البيع لغة وعرفاً، وظهور كلمات الفقهاء في ذلك.
وذكر في (الجواهر) عدم الخلاف والإشكال في اعتبار كون المبيع عيناً، ولكن جوّز وقوع الثمن عيناً أو منفعة أو حقّاً قابلاً للنقل أو الإسقاط بعد ما حكى عن أستاذه منع وقوعه حقّاً(١).
وللمحقق اليزدي والخراساني ـ قدس سرهما ـ كلام في المقام ستأتي الإشارة إليه.
بيان أمور متعلقة بالبيع
هذا؛ وتحقيق ما ذكره يحتاج إلى بسط الكلام في أُمور:
١ـ كيف نشأ البيع والمعاملات بين أبناء البشر؟ وما هو مصدر الثمن والقيمة؟
٢ـ هل اللازم كون المثمن من الأعيان دائماً؟ وعليه كيف يجوز بيع السرقفلية وبيع ما يسمى بامتياز مشروع الماء والكهرباء وأمثال ذلك ممّا هو متداول اليوم بين العقلاء والعرف؟
٣ـ ما المراد بالعين؟ هل هو العين الخارجية، أو أعم ممّا في الذمّة، والكلّي المُشاع، والكلي في المُعيّن وغير ذلك؟
٤ـ إذا كان كلّ من العوضين من العروض أو من الأثمان، فهل تكون المعاملة بيعاً أو معاوضة أُخرى؟
٥ـ هل يصحّ جعل المنفعة ثمناً؟
٦ـ هل يكون عمل الحرّ مالاً؟
٧ـ الحقوق ودورها في البيع والشراء.
١ـ كيف نشأت البيوع والمعاملات؟
الذي يظهر من مراجعة المجتمعات البدوية والموجودة في زماننا أيضاً، أنّ البيع عندهم يكون بمبادلة الأعيان بالأعيان، مثلاً من كانت عند كميّة كبيرة من الحنطة زائدة عن حاجته، فإنّه يعطي بعضها لغيره، ليأخذ ما عنده من الثياب أو غيرها. فالبيع يكون بهدف الحصول على ما يحتاج الإنسان إليه من خلال بذل ما يحتاج إلى غيره وأخذ ما يحتاجه منه.
ولكن هذه العملية تستبطن مشاكل جمّة على مستوى التبادل التجاري بين الناس.
منها مشكلة عدم توفر العوض الذي يحتاج إليه صاحب الحنطة مثلاً أحياناً؛ لعدم حاجة صاحب الثياب إليها، لأنّ المعاملات على هذا الفرض تدور مدار حاجة الطرفين فقط، فلا تجري في غير هذه الموارد.
ومنها مشكلة حمل الأعيان الكثيرة في الأسفار وغيرها كي تُباع بغيرها عند الحاجة.
ومنها مشكلة ادخار كميات كبيرة من أجناس مختلفة؛ للتوصل إلى ما يحتاج إليه في عملية المبادلة بواحد منها، وغير ذلك من المشاكل.
نعم، لما كانت مبادلة العين بالعين تتضمن هذه المشاكل العظيمة، مسّت الحاجة إلى ما يكون قليل الحجم، كثير القيمة، لا يندرس بسرعة، ويمكن حمله بسهولة ليجعل عوضاً في جميع المعاملات، فوجدوا الذهب والفضة جامعين لهذه الصفات، فجعلوا الأول للمبادلات الخطيرة، والثاني لليسيرة، وأيسر منهما النقود المتخذة من سائر المعادن.
ولما كثر حجم المعاملات، واتّسع نطاقها، وزاد عددها، رأوا أنّ الدراهم والدنانير أيضاً لا تقومان بما يحتاج إليه الإنسان في هذا المجال؛ لما فيهما من كثرة الحجم في المعاملات الخطيرة، مثلاً إذا كان ثمن معاملة مليون درهماً، فإنّها قد تربو على ألفين كيلو بحسب الوزن تقريباً.
هذا مع ما في نقلهما من أنواع المشقة والخطر في السفر، وفي ادخارهما في الحضر، بل قد لا يكون في بعض الأصقاع الكمية اللازمة من الذهب والفضة للمعاملات الخطيرة جداً، وغير ذلك، فأوجب ذلك الفحص عن طريقة للخلاص من هذه المشاكل، فرأوا ادخارهما في حرزٍ منيع، ثم يكتبوا الحوالة إليها، ودارت المعاملات مدار الحوالة، ومن هنا ظهرت النقود الورقية.
فهي في الحقيقة لم تكن مالاً في بدء الأمر، بل مُعِرفاً لما يُحال عليه من الأموال ممّا سمّوه (غطاءً ورصيداً)(٢).
هذا وكانت هذه النقود الورقية قابلة للتبديل بما يُحاذيها من الدرهم والدينار في أوائل ظهورها، لكن لم يقف الأمر إلى هنا، حتى احتاجت السلطات الحاكمة إلى نقود ورقية أكثر من الرصد المُدّخر، فطبعوا أوراقاً وفرضوا على ذمتهم ما يُحاذيها من الذهب والفضة، وسمّوه الاستقراض من البنك المركزي (أي مركز ادّخار الرصيد).
وصار هذا سبباً لانحياز هذه الأوراق عن الرصيد انحيازاً تدريجياً.
أضف إلى ذلك أنّ أحداً من الناس لم يكن يرجع إلى البنك ليأخذ ما يُعادل النقود الورقية من الذهب والفضة، وعلى فرض الرجوع لم يقبل هذا الأمر منه.
مضافاً إلى أنّ نفس هذا الاستقراض ـ الذي لا يتمّ تسديده إلى سنين، بل قد لا يسدد أبداً ـ أوجب كون الرصيد أمراً صورياً لا واقع بإزائه، ومن هنا أصبحت هذه النقود نقداً رائجاً بذاتها لا بشيء آخر ورائها.
ولا عجب في ذلك بعد كون الملكية بذاتها أمراً اعتبارياً، بل إنّ مالية كثير من الأشياء ليست إلاّ اعتبارية، فهل الجواهر الثمينة التي لا نفع فيها لحياة الإنسان، أو الأشياء الأثرية التي هي كذلك، أو أسوء حالاً منها، وكذلك الطوابع التي مرّ عليها زمان كثير، هل تكون ماليتها بغير الاعتبار العقلائي؟ بل كثير ما تكون منافعها وهمية خيالية لا يقبلها بعض العقلاء، فكيف بالنقود الورقية التي لها إمكانية حل مشاكل البيوع والمعاملات؟
ومن أوضح ما يدلّ على استقلال هذه الأوراق فعلاً أنّه إذا استدان شخص مبلغاً منها من غيره، كألف تومان مثلاً، ثم مرّ عليه عدّة أعوام وارتفعت قيمة الذهب والفضة كثيراً في هذه المدة، فإنّه لا يرى نفسه ملزماً بأداء أكثر من ألف تومان، ولا يفتي فقيه بغير ذلك، وكذلك في الصداق الذي يدور مدار هذه النقود الرائجة إذا مرّت عليه عدّة أعوام، ولو كانت النقود الورقية إشارة إليها للزم تغيير مقدار الدين.
وهذا أمر ظاهر واضح، وعلى هذا يمكن الحكم عليها بمثل الحكم على الدراهم والدنانير وليست حوالة عليها.
وليكن هذا على ذكر منك يُفيدك في كثير من المباحث الآتية والمسائل الفقهية، وسنتلو عليك إن شاء الله منه ذكراً.

(١) جواهر الكلام ٢٢: ٣٠٩.
(٢) ويسمى في الفارسية بـ(پشتوانه).